السبت، 23 نوفمبر 2013

هل ذاكَ لامعُ برقٍ



يبدأُ التلمساني رحلتهُ في القصيدة من آخر دمعةٍ يتركها على مضض. يرسُمُ لنفسهِ المصيرَ المعلق على شذراتِ التجلي ، كصوفيٍّ بلا ملاذ ، كجمرةٍ تشتعلُ مساءً لُضيئَ قارعةَ الطريق.


لا يُريدُ هذا العتيقُ لشعرهِ أن يكونَ ساحةً من ساحاتِ الندم وإنما المصالحة على شرعيةِ الحزن 
العميق. يُخاطبُ أحباءهُ كما يراهم بريئينَ من الخطيئة عامرينَ بالقداسة والجلال :

هم ألبسوني سِقاما من جفونهمُ
أصبحتُ أرفلُّ فيهِ وهو ينسحبُّ
وصيّرتْ أدمعُي حُمراً خدودهمُ
فكيفَ أجحدُ ما منُّوا وما وهبوا

ممتداً بعروبتهِ التي وطدَ لها مرقدا في أطرافِ دمشق، يبدو هذا السائرُ الليل كالنهار، يذكرُ الجرعاء دوما وكأنهُ نبتةٌ تُبصرُ ما تكونُ عليهِ حالةُ الطقس ونسائمُ الرياحِ نحو الشمال، تلكَ الشمولُ التي تجعلُ كأسَهُ منتشيا ببرودةِ القمر ، تُدخلهُ نحو عالمٍ لا تلامسهُ إلا القلوب ومسرحياتٍ في فصلها الأول تُعبرُ عن استدراجِ اللذة :

أيا صاحبي ما للحمى فاحَ نشْرُهُ
فهل سحبتْ ليلى ذيولاً على الرُبا
فما ذا الشذا إلا وقد زارَ طيفُها
فأهلا بطيفٍ زارَ منها ومرحبا
فيا طيبَ عيّشٍ مر لي بفِنائها
ولو عادَ يوماً كأن عندي أطيبا

يتبسمُ هذا الشعرُ في مرآةِ ذاته ، لم يعلم بأنهُ سيؤنسُ ذاتَهُ في مخيلتنا أكثرَ مما فعل، يجعلنا بائسينَ عن الوصولِ إلى مصبِ النهر كي نشربَ الأُنس ونغرق في أطرافِ المحبة كيرقاتٍ أضاعت لونها في سوادِ البحر، يأتي لنا التلمساني بليّلاه ، ويرسمُ في مرآةٍ الزمانِ محبوبته كلوحةٍ منقحةٍ من خطأ الشحوب : 


لياليَّ أُنسٍ كُلُّها سحرٌ بها
وأيامُ وصلٍ كُلها زمنُ الصِبا
هي الشمسِ إلا أن نورَ جمالها
يُنزْهُها في الحُسنِ أن تتحجبا

كريمٌ هذا العفيف ، مُصنفاً في العلومِ لا يعرفُ الشبع، يصرُّ في كل مرة أن يُحاكي ظلّهُ الجائع بالعطاء ، بقتلِ الملامة وإشعال الآخر، لا راضخا إنما منتشيا كساهرٍ بلغَ ذروتهُ من الخمرِ لم يعد لديهُ للعتبِ مكاناً، يُصرُّ على تنقيحِ ذاته قبل أن تصلَ لأيدي الأحبه ، فنراهُ هُنا يُجردها من كلِّ شيءٍ سوى الحُبّ :

وهبْتُكَ سُلواني وصبري كِلاهُما
وأما غرامي فهو ما ليسَ يُوهبُ 
وقيدتُ أشواقي بإطلاقِ صبوةٍ
إليها صَباباتُ المُحبين تُنسبُ
فها أنا والساقي يُناولُ كأسَها
فأشربُ صِرفاً أو يُغني فأطربُ
فإن لامَ فيها الشيخُ طِفلَ غرامِها
على سُكرهِ فالشيخُ كالطفلِ يَلعبُ


أما الطبيعة ، فلم تكن رياحُ الصبا تُجاري هذا المسافر في عزلة الشعرِ في مرورهِ على أطرافِ النبات أو وجوهِ البشر، أسئلةٌ تُواجهُ أسئلة، فقرٌ في الإجابات تُغنيهِ الأسئلة، هذا هو الخط الزمني الذي امتص المكان في جملة ، هو التلمساني وشعره :

هل ذاكَ لامِعِ برقٍ لاحَ من إضمِ
أمِّ ابتسمتْ فهذا بارقُ الشَّنبِ
وتلكَ نارُكِ بالجرعاءِ ساطعةٌ
أم ذاكَ خدُكِ وهَّاجٌ من اللهبِ
لا أنقذَ الله من نارِ الجوى أبدا
قلبي الذي عن هواكُمْ غيرَ مُنقلبِ 


الظهران