السبت، 22 أغسطس 2015

ظهيرة

الظهيرةُ تستعد للتنازل عن عصاها، لتكف عن جلد أمزجتنا في هذا الصيف، كل شيء يتراجع، كأن معركة اليوم ستنحصر في زحام العربات.
ويبدو أن ذاكرةَ الأماكن تحفظ تاريخها جيداً، الوجوهُ مغايرة لكن الواقع ذاته. خليجٌ يتبخرُ في جحيم الصيف ، يتخلصُ من كل شيءٍ حتى من الحب كأنه يرحلُ إلى الصحراءِ محتفياً بأصالةِ الرمل وخيبةِ الهضبات. كل شيء يأتي ، وضدهُ .

أتساءلُ لماذا ليس ثمَّ فرصة لتخيّل رقصةٍ من رقصاتِ سالومي ، أو ملامحٍ من ملامحِ هيباتا. ربما لأن مخيلةَ نيتشه إغتالت كل شيء في جاذبيتها، ربما لأنها صارت أيقونةً لتبادلِ المخيلات. أسيّرُ نحو مكانٍ يُقال أنه منزلي، كيف يعرف البريدَ وساعيهِ عنواني أكثر مني؟، ما الذي يجعله جديرا بذلك ، عموما فأنا لا أملك خيارا في ذلك ، أو ربما أن الشهوة في أن نبقى مشرذمين حتى النهاية تجعلنا نجهل أماكن إقامتنا. 

طالما كان العبور والترحُلُ حالاتٍ تتجددُ من تلقاءِ ذاتها لتُقنعنا دون تنصُل كي نكون أوفياء لها. أقلبُ في قائمة الموسيقى ، أبحثُ عن موسيقارٍ يؤدي طقسهُ وحدهُ ، دون شركاء وحتى دونَ جمهور. شيءٌ يتأتى من آخرِ الإيقاع. وحدي وأريدهُ وحدهُ دونما رفقةٍ تُقاطعُ الصدى . ربما هي الرغبةُ في العزلة، في مقاسمة العالم ظلماتهُ.
ومثلما قالت ماري آن قبل إعدامها بتهمةِ القتل أكثر الرسائل حُزناً وايجازاً: ليس لدي أصدقاء. هكذا يجب أن نقول للصيف ، أن لا نُفصل لهُ خيبتنا أكثر مما يفعل.

"شمسٌ تهبطٌ ، وأخرى تصعدُ .. ماذا يُقالُ إلى الزهرِ الذي ينتظرُ إنتشاء الندى؟. 
لن تعرفَ هذهِ المرةْ ، هل لابُدَّ أن تكتبْ؟"



الخبر

١١ آيار ٢٠١٥

سماؤنا التي تتأرجح

وجعٌ ، يبدو قريباً من الصلواتِ العظامْ.
فيما يُقشرُ الليلُّ أعضاءَ التعاويذِ ، 
عجباً 
كيّفَ يدبُّ هذا الإلهُ الصغيرُ
في كلِّ منفى !

يساورنا مثل أخيلةِ الحطبْ ،
ويعددُ أسماءَ الحيِارى -اللاتي انتحبنَّ منَ الظهيرةِ-

(فاصلٌ)
قائلٌ : ليستْ كتابةُ العالمِ من تكشفْ الرؤيا،
بل قراءةُ الهامشِ المفقودِ من الحقيقة

مُتأرجحٌ هذا الضوءُ، لكن الصمتَ يجعلهُ رهينا للظلامْ.
ربما، يصرُّ الكونُ على مناصفةِ الحقيقةِ شيطانها الأول ويبدو أنه يستهلكُ الجدليةِ ، ويلقيه في صدرٍ إمرأة
لاتحتمل إشتهاءً ولا أمومةْ
وطنٌ نُسميهِ أمٌ ، وأرضُنا ورقٌ
يتوقفُ فيها السؤالُ وتُبتكرُ المغفرة!

(دوِّن)

لو أمشي نحو مستقبلٍ، 
لن يكونَ سوى الغضب

لو أدعو إلى لغةٍ، / لن تكونَ غيرَ منفى
وكيف يبدو بيني وبينَ النارِ خارطةٌ
اسّمُها جسديّ.

(عابرٌ)

يمشي كطائرٍ يفرشُ للمطرِ جَناحيهِ
يحسبِ أنهُ ، قد يستوقف الغيّمَ
هكذا يحسبُ الشعرُ أنه يخرجُ من سلطةِ الأنثى!
/
 قلْ لها أيها الشعرُ : أينا غيمةٌ ..أيّنا قدرٌ؟ 
-لستُ أدري .. 
سوى أننا صورةٌ للكونِ تنتفضُ

نضحكُ .. تضحكين
ليس هناكَ ما يكفي لكي نضحك
ألأّنَّّ سماءنا بيننا تتأرجحُ؟

(عائدٌ)

لماذا يجهضُ الماضي كل محاولاتِ الدهرِ
أن يصغي لأفواهِ النساءِ اللاتي انتظرنَّ مجيء القدر؟

يقولُ إلى الذاكرة:

لستُ أعرفُ ذاكرةً أخرى لدي
لا يجتاحها وجهك
فهل صارَ ذكرُكِ ظلّاً للأحياء والموتى؟

الظهران

٢٢ آب ٢٠١٥

الخميس، 6 أغسطس 2015

جاذبية

عادةً ما تكونُ الأرضُ أول شيء أتأمله قبل ركوبِ الطائرة  ، قبل أن تحلق بعيداً، وأنسى دائما آخر مرةٍ رأيتُ فيها تلك السُحب البيضاء من كوةِ الطائرة. هكذا تأخذ السماءُ دور التطهر حتى من ذكرياتنا. ها هنا نحنُ صامتون ، مرتابون ربما أو نبدو متحررين من الجاذبية. نبدو أكثر إتزانا ، هل نصعدُ أم نهبطُ ؟ ، ليس بعد ولا يكفي الزمن المُحلقُ حتى أجيب على سؤالٍ كهذا. السماءُ أكثرُ هدوءً حتى الموتِ نفسه، هل لأننا أردنا الأرضَ أن تكون سماءً؟ ،ربما أخطأنا في تصور السماوات، ها هي أهدأُ من الأرضِ التي نعمرُّها أبراجاً لكي تقترب من الهاوية!. 
أتصورُ ، إذا ما خرجَ كائنٌ هنا وأبتكرنا لغةً للكلام. ماذا سيخبرني إذا؟ ، ليس هناك حديثا سوى عن الموتِ أو الحياة. وقد يخبرني أن السماءَ تموت -بيدِ أُختها الأرض-.

الأحد، 2 أغسطس 2015

معكِ ومع الكتابة

أجمل ما في الكتابة وربما أصعبُ ما فيها أنها تكشفُ لك جنونك .. ولكن بطريقة مغايرة تماما، فهي تخبرك عنهُ ساخرةً ، وأنتَ أمامها لا تملك ردعاً لهذا الجنون المتصاعد.

كلما اقتربت من شهوة الكتابة، تتنتفض أعضاؤك ، تتحركُ  وتتبدلُ ، يصغرُ فيها الضوء ويستشري الظلام الذي يستهوي توسيع دائرة الممكنات.
 في أول الأمر كنت اختصرُ جدل الكتابة في الوجود ، في إرادة البقاء على سُلمِ الورق متواريا عن الحركة التي تخضع لقوانين الطبيعة. إنها ليست كذلك ، فالأمرُ ليس بتلك الحدة وليس بهذا المجاز.

هناك ملايين الأسباب للكتابة، تتراوح بين الجد والهزل ، بين الحياة والموت ، البقاء والانقراض، الواحد والجمع، الصلاة والغضب .. وأكثر.
فكل قصيدة تحمل عالمها وكل العبارات عوالم. تتقابل ، تتضاد ، تتكاثر ، وتنحسر في نهر واحدٍ هو الشهوة التي تولدُ هذا النهم.

وتمثيلا لذلك فمن أقصر الطرق التي أُغضبُ بها نفسي أن أسألها: لماذا تكتب؟. ولا أعلم لماذا تغضب؟ ، ربما لأن سؤالٌ كهذا يُعدُّ اتهاما بالأنانية لا مناص منه. ومرةً أُخرى أهربُ للبحث عن سبب للبقاء ليَّدلني على سببٍ للكتابة. وأعيش ذروةَ الإنتشاء فقط ، عندما أعجزُ عن الإجابة.

إن كل تدخلات العقل لحل هذا الاشتباك تكادُ تفشل ، يؤزرُ هزيمتها المُعري ، بقوله :

ولا تَذبُبْ، هناك، الطيرَ عني
؛ولا تَبْلُلْ يداك فماً يذبّ

لماذا، إذن لا ترى الأعين التاريخ الذي يتصاعد الإنسان فيه ثم يهوي إلى القاع. بذات الأسباب وبذات السلالم التي يصعد بها إلى الأعلى.

يصعد درويش على صدر التساؤل ، لربما للحظة وربما أقل / لا أكثر مستعينا بإدوارد سعيد، وبضحيةٍ تسألُ  جلادها : 

يدُّ الفرضيةِ بيضاءَ مثلُ ضميرِ
الروائي حين يُصفي الحسابَ معَ
النزعةِ البشريّةِ .. لا غَدَ في
/الأمس، فلنتقدم إذا
قد يكونُ التقدمُ جسرَ الرجوعِ
/ ... إلى البربرية



أقولُ :

"ماذا سيرضي آدماً كي يستفيق من تعبه ؟، 
مُتعبٌ هذا الكائنُ .. لا تفاحةٌ تقْبَلُهُ
ولا حواءَ تُرشدهُ إلى المعنى"

ماذا ،إذا ، لو كان للشعرِ تفاحٌ ورؤيا؟


فردٌ يتآكلُ في عالمٍ يسيرُ بلا هدفٍ، سوى أن النهايةَ ترفضُ أن تعطيهِ خارطةً لها. 

جدة

٤ آيار ٢٠١٥

لغةٌ من الماءِ

دخانٌ يتصاعد من قذيفةِ الحزنِ المهيمنِ فوق قارعةِ المدينة. بحرٌ يهيمُ في سواد، أقنيةٌ من الزجاج تتكسر مع كل موجةٍ. هذا الكونُ رداءٌ يلبسُ الصيف وليس ثمَّ ما يؤرخُ العرق الذي يتصبب من جبينِ اللغة. هنالكَ شاعرٌ مسجونٌ،  لكنه يصرخُ بملء صوته.
وآخرٌ يتحررُ ، لكن ماذا يفعلُ بالتاريخِ الذي يبدو سجينا؟.

كلُّ الروايةِ أن يُكتبَ الحزنُ ، كيفما ينبغي لهُ أن يكون ولسنا بصدد السؤال عن المزيد من التهلكة.
ذلك الحزنُ الذي يدور مثل أسطوانةِ موسيقيةٍ في كل آنٍ بلا انقطاع.

متعبٌ هو العالمُ الذي ينحني ليغطس في الوحل الذي خلّفهُ البشر، هذا الشحوب والأرقُ الذي يصاحبنا أكثر من الماء.
لستُ أدري أيهما سرُّ الحياة ، الماء أم الدماء. كلاهما ينضحُ بما في الأرضِ من موت وما للسماءِ من أثر سوى وجهُ الأسئلة.
إذن كيف ستبقى للأرضِ نافذةٌ مفتوحة، إذا اختنقَ السؤال؟. 

أيهما تفضلُ اللغة، أن تبقى عاجزةً عن المضي إلى المستقبل في ظل الواقع، أم تفضل صناعة الوهم ابتكاراً يجنبها عناء الثبات؟

ليس الوهمُ إلا هروبا من مقصلة الجمود. غالبا تقاسمني الموسيقى لحظاتها الكبرى ، كجزء من التأمل الذي لايتوقف لدى العقل، تلك المسكوبة على جرح البشر صغارا أو كبارا.

أسألُ :كيف يستطيعُ البشر بناء عالم دون نغم؟ ، كيف يتعايش الشعراء مع ذواتهم لولا أن ألبير كامو لم يتنبأ بصخرة سيزيف، الصخرةُ التي تتدحرجُ كاللغة على صدرٍ رجُلٍ واحدٍ هو الشعر.

وطنٌ أمرُّ من المنفى ، هكذا تبتكرُ التناقضات حقيقتها الجديدة، سارتر يسعى في قلب باريس ،يوزع منشورات اليسار، يتأمل في وجه فولتير : يريدونني أن أتوقف!. قل لي إذن :كيف لي أن أربط عينيك عن الحقيقة؟.
هكذا يجب أن تدافع اللغة عن الحرية لا أن تسوغ لقتلها.


"لستُ أخشى من اليوم الذي تنتهي فيه الأجوبة، أخشى ذلك الذي تنعدمُ فيهِ الأسئلة."

"كل ما يُقرأ لابُد أن يُنسى، لأن القراءةَ ماءٌ. هل تُحسُّ اللغةُ بأنها تتحركُ؟."