الثلاثاء، 3 أكتوبر 2017

سلسلة البحث عن الموتى

في هذا الصباح الهادئ، استلقي في البيت على القرب من شاطئٍ لا اسم له، تعرجُ أفكاري فوق كل الذكريات. أتذكرُ بعض لمحات الكتب التي تنظر إليّ من فوق الرفوف دون حراك. في هذا الظلام المخيم على فراشي، تنام على الرف القريب روايةُ كل الأسماء لساماراغو. أتذكر جيداً كل المصاعب التي واجهها بطل الرواية -دون جوزيه- في البحث عن امرأة ما سقطت شهادةُ ميلادها سهواً في يده. اعتبر الدون ذلك رسالةً إلهية وبدأ البحث عن المرأة صاحبة الشهادة ، ولكن بعد التحريات ، ومعرفة كل تفاصيل حياتها، وبحكم أن دون جوزيه موظفاً في السجلات المدنية التابعة للدولة -التي تعرف كل شيء عن كل شيء وفي كل مكانيكتشف أنها لم تعد على قيد الحياة يذهب للبحث عن قبرها ويمكث عنده ليلة كاملة. وفي الصباح يقابل دون جوزيه راعياً يطوف في المقبرة، يدور الحوار بينهما، ثم يعترف الراعي بأنه يقوم بتغيير أرقام القبور. يقول : "هؤلاء الذين انتحروا رغبةً في مغادرة الحياة والهروب من الرقابة جديرون بذلك ، بألا يتعرف عليهم أحد، على الأقل بعد الموت.


هنا يصعق القارئ بسبب ضياع كل الجهود التي قام بها الدون ليتعرف على القبر. فكل شيءمهما أُعتقد أنه مسجل  وتحت السيطرة قد يخرج منها على حين غرة. في الرواية تُصور السجلات آنذاك بوصفها موسوعة عن البشر، تسجل ولادتهم ووفاتهم وأماكنهن ووظائفهم وعلاقاتهم. مرسوعة كبرى تحتكرها السلطة وتُعدهت للاستخدام ، تماما كما تبدو وسائل التواصل لنا هذه الأيام. ولكن دائما هناك أمثال هذا الراعي، في كل مكان وفي كل حلقة من حلقات سلسلة المؤسسة. هناك من يغيرون اللعبة بأكملها بحيث نصبح غير قادرين على التثبت، ولو أردنا ذلك بكل تعنت

وربما كان محاولاتنا لبناء موسوعات البشر افتراضاً هزليا قبل كل شيء. أن نبحث عن ثبات البشر الذين يتغيرون كل لحظة شيء لا يمكن تصديقه. في "كل الأسماء" صدام بين الحتمية والاحتمالات، تماما كما بين النظرتين النسبية والكمية، وكما بين نظرية التطور والخلق، وبين العقل والروح. الصدام أو الحوار بين إذا ما كنا نعرف حتما أو بعضاً أم لا نعرف مطلقاً. حوارٌ يجعل الحياة ممكنة دائما وأبداً ودون تردد

الجمعة، 17 مارس 2017

غربة وبداية

يختارُنا المكانُ الذي نرتاحُ فيهِ

بدونِ أن نعرفهُ حقاً

نفتحُ في أرجائهِ صفحةً للحبْ

نحبُ كل الأشياء ، 

والتي لم تعد بحوزتنا

وكل الذكرياتِ التي تركها القدرُ

إلى اللاعودة

ربما ترضينا شهوةُ الخلودِ 

فننسى

ربما تفرُكنا لُعبةُ الفقرِ

فنتباهى بالسرابْ

بفتنةِ الماضي

نحنُ أبناءُ الذبيحينِ اللذينِ لم يقتتلا

ونحنُ العراةُ الطائفينِ بالبيتِ

دونَ الجِهاتِ الأربعة

للبيتِ ربٌ .. 

وللعصفُ ربٌّ

وللعربيُّ أسئلةَ الدهرِ 

التي لاتُجابْ



٢٨ فبراير ٢٠١٧

الجمعة، 10 مارس 2017

حلمٌ أم وسيلة!

حلمٌ أم وسيلةْ؟
تسيرُ في بلادكَ وأنتَ لا تعرفُ الطريقَ لها
قدماكَ تسبقُ خطوكَ
وأنتَ خاوٍ سوى من ذاكرةِ الجسدْ
"ليس لكَ اختيارٌ"
يصرخُ في وجهكَ الشارعُ
وأعمدةُ الإنارة، التي لا تضيءُ سوى السبيلُ الذي يريدونهُ لكَ
وحولكَ كلَّ من أوهموكَ .. بأنكَ حرٌ
وهمْ يقولونَ : 
لكَ ماتريدُ
لكَ أن تختارَ المسيرَ .. في كل الطرقاتِ المقفلة
والتي لا ضوءَ فيها .. ولا صديق
ستصرخُ مرةً .. ثمَّ أخرى ،
لكنك حتما ، ستتبعُهم في النهايةِ
إلى العُرسِ الذي لا فرحةَ فيهِ
ولا فاتنةْ
كلما رأيتَ ضيفاً تمالككَ الغضبْ
رجالٌ مزملونَ بالبيضِ
ونساءٌ ليسَ لأجسادهنَّ مصيرٌ
سوى السوادْ
وشيخُ يقول :
هذي هيَّ البلادُ.
ولكنكَ الآن تكبـرْ
وصرتَ تعرف أكثرْ

الأحد، 5 فبراير 2017

سفرٌ ولغةْ

يتصادف السفر عادةً مع حالات نفسانية متعددة، تحضر المدن التي نزورها بشكلٍ مباغت في ذاكرتنا الروحية دون موعد مسبق. حتى ولو تظاهرنا بالاستعداد لذلك. فالنفّسُ ليست حقيبة حتى يُمكن لنا تصور ترتيبها قبل السفر بساعات، بل بأيام أو ربما أكثر من ذلك. تحتاجُ الروح عادةً إلى المخيلة، أكثر مما يحتاجُ لها العقل. في المخيلة تحضرُ الأسماء، زحام الشوارع كل صباح، زحامُ الأماكن العامة كل مساء. اسطنبول التي تفصل بشكل ما بين الشمال والجنوب، أو الشرق والغرب تحتاجُ لمخيلة زائريها أكثر من جوازات سفرهم. إنها تقع بشكلٍ ما في منتصف الصراع بين العقل والروح، بين بوذا وجون لوك، بين فوكوه وتشابرثرجي، بين جلال الدين ولوثر، والقائمة تطول ولكن ليس بعد. فالشرق الذي تتذكره اسطنبول يختلف عن شرقها الحاضر في كل شيء. إن فكرة السفر تشكل تحدياً بحد ذاتها ، فكيف وأنت تجوب الأماكن التي عبرها الحاج ولي بكشكتاش ذات يوم، تلك التى ترددُ صدى كلماته لصبية الانكشارية يوما ما. وفي الوقت نفسه يغطي مصطفى كمال اتاتورك نصف هذا المدينة. عندما نسافر لمكان ما نكون على موعد مع اختبار الذات، أن نحاول التصرف كما لو أننا نعيش هناك منذ الولادة، بدون ذلك سنبدو تائهين بلا جدوى. السفر أن نتعلم كل شيء كأنهُ للوهلةِ الأولى، كأن نتعلم المشي، بخطوات قليلة، أن نخرج من ذواتنا لمرةٍ واحدة، وربما للأبد.


نتذكر لوهلةٍ أننا نؤدي جزءً من وصية أبي تمام


وطولُ مَقامِ المرءِ في الحيّ مخلقُ

لديباجتيهِ ، فاغتربْ تتجددِ


أن نُحدث المدن التي نمرُّ فيها ،أن تخترقنا كلمات ساكنيها دون أن نفهمها، كلغاتٍ لا تقالْ. ونرى مرآتنا، تلك التي يعرفها البسطاء من أول نظرة. هم يعرفون السبيل المؤدي إلينا، هوياتنا المركبة والمتراكبة التي تحاربها بلداننا، السفرُ خروجٌ عن النمط، استهلالٌ خارج سِرب الجراد المتطابق. وقليلةٌ هي المدن التي تخبرنا من نكون، تعرفنا جيداً قبل أن نصلها، كل زقاقٍ فيها، كل بائعِ حلوى، كل ساحةٍ فيها تعرفُ من نكون، وتملكُ حِدساً لما يجب عليه أن نكون. أو أنها ، بلغةٍ أخرى ، لا تهتم لذلك.


وها نحنُ عندما نهربُ من بلداننا، من الحربِ المستمرة التي نبتسمُ في صباحاتها. نقاتل كي نحيا، نقاتلُ بالصمتِ، بالهدوء، بالحياة السعيدة المستمرة. نصرنا هو أن نكونَ على قيد الحياة، متمسكينَ بالأملِ أبداً طالما أنهُ المكان الذي يتراءى في الوقتِ مثل الحُلمِ كما يصفهُ قاسم حداد :

قيلَ هو الوقتُ والمكان

يتراءى مثلَ الحُلمِ فيما يكونُ .. وهماً

يتمارى فلا تدركهُ البصيرةُ، 

ولا يطالهُ الكلامْ

لن تعرفَ ما إذا كنتَ سيداً في هذا الجحيمِ ، 

أم عبدا ..

ليسَ لكَ أن تقولَ باللُغةْ

وما إن تقولَ بيدكَ حتى يطالُكَ القصمْ

ففي الجحيم الذي 

لا تسبقهُ جنةٌ

ولا تليّهْ

أنت في المهبْ

مزاجُ الريحِ تعصفُ بكَ

ويدفعكَ إلى التهلكةْ


****


بلادُكَ أيها المجنون، 

ساحةُ حربِكَ الأخرى

خطيئتُكَ الجميلة

فانتخب أعداءكَ الفرسانَ

قاتلْ .. وانتظر .. واهدأْ

فهذي وردةٌ للكأسِ

 سوفَ تقولُ للأطفالِ عن جسدٍ تماثلَ

واصطفى موتاً ..

وبكى غفلةَ النيرانِ



٢٨ كانون الثاني

المدينة المنورة