الأحد، 5 فبراير 2017

سفرٌ ولغةْ

يتصادف السفر عادةً مع حالات نفسانية متعددة، تحضر المدن التي نزورها بشكلٍ مباغت في ذاكرتنا الروحية دون موعد مسبق. حتى ولو تظاهرنا بالاستعداد لذلك. فالنفّسُ ليست حقيبة حتى يُمكن لنا تصور ترتيبها قبل السفر بساعات، بل بأيام أو ربما أكثر من ذلك. تحتاجُ الروح عادةً إلى المخيلة، أكثر مما يحتاجُ لها العقل. في المخيلة تحضرُ الأسماء، زحام الشوارع كل صباح، زحامُ الأماكن العامة كل مساء. اسطنبول التي تفصل بشكل ما بين الشمال والجنوب، أو الشرق والغرب تحتاجُ لمخيلة زائريها أكثر من جوازات سفرهم. إنها تقع بشكلٍ ما في منتصف الصراع بين العقل والروح، بين بوذا وجون لوك، بين فوكوه وتشابرثرجي، بين جلال الدين ولوثر، والقائمة تطول ولكن ليس بعد. فالشرق الذي تتذكره اسطنبول يختلف عن شرقها الحاضر في كل شيء. إن فكرة السفر تشكل تحدياً بحد ذاتها ، فكيف وأنت تجوب الأماكن التي عبرها الحاج ولي بكشكتاش ذات يوم، تلك التى ترددُ صدى كلماته لصبية الانكشارية يوما ما. وفي الوقت نفسه يغطي مصطفى كمال اتاتورك نصف هذا المدينة. عندما نسافر لمكان ما نكون على موعد مع اختبار الذات، أن نحاول التصرف كما لو أننا نعيش هناك منذ الولادة، بدون ذلك سنبدو تائهين بلا جدوى. السفر أن نتعلم كل شيء كأنهُ للوهلةِ الأولى، كأن نتعلم المشي، بخطوات قليلة، أن نخرج من ذواتنا لمرةٍ واحدة، وربما للأبد.


نتذكر لوهلةٍ أننا نؤدي جزءً من وصية أبي تمام


وطولُ مَقامِ المرءِ في الحيّ مخلقُ

لديباجتيهِ ، فاغتربْ تتجددِ


أن نُحدث المدن التي نمرُّ فيها ،أن تخترقنا كلمات ساكنيها دون أن نفهمها، كلغاتٍ لا تقالْ. ونرى مرآتنا، تلك التي يعرفها البسطاء من أول نظرة. هم يعرفون السبيل المؤدي إلينا، هوياتنا المركبة والمتراكبة التي تحاربها بلداننا، السفرُ خروجٌ عن النمط، استهلالٌ خارج سِرب الجراد المتطابق. وقليلةٌ هي المدن التي تخبرنا من نكون، تعرفنا جيداً قبل أن نصلها، كل زقاقٍ فيها، كل بائعِ حلوى، كل ساحةٍ فيها تعرفُ من نكون، وتملكُ حِدساً لما يجب عليه أن نكون. أو أنها ، بلغةٍ أخرى ، لا تهتم لذلك.


وها نحنُ عندما نهربُ من بلداننا، من الحربِ المستمرة التي نبتسمُ في صباحاتها. نقاتل كي نحيا، نقاتلُ بالصمتِ، بالهدوء، بالحياة السعيدة المستمرة. نصرنا هو أن نكونَ على قيد الحياة، متمسكينَ بالأملِ أبداً طالما أنهُ المكان الذي يتراءى في الوقتِ مثل الحُلمِ كما يصفهُ قاسم حداد :

قيلَ هو الوقتُ والمكان

يتراءى مثلَ الحُلمِ فيما يكونُ .. وهماً

يتمارى فلا تدركهُ البصيرةُ، 

ولا يطالهُ الكلامْ

لن تعرفَ ما إذا كنتَ سيداً في هذا الجحيمِ ، 

أم عبدا ..

ليسَ لكَ أن تقولَ باللُغةْ

وما إن تقولَ بيدكَ حتى يطالُكَ القصمْ

ففي الجحيم الذي 

لا تسبقهُ جنةٌ

ولا تليّهْ

أنت في المهبْ

مزاجُ الريحِ تعصفُ بكَ

ويدفعكَ إلى التهلكةْ


****


بلادُكَ أيها المجنون، 

ساحةُ حربِكَ الأخرى

خطيئتُكَ الجميلة

فانتخب أعداءكَ الفرسانَ

قاتلْ .. وانتظر .. واهدأْ

فهذي وردةٌ للكأسِ

 سوفَ تقولُ للأطفالِ عن جسدٍ تماثلَ

واصطفى موتاً ..

وبكى غفلةَ النيرانِ



٢٨ كانون الثاني

المدينة المنورة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق