الثلاثاء، 27 أغسطس 2013

فاتحةُ مشْهد

الصورةُ الأولى في كل مشهد ، لا تفيّ للخروجِ من عبقِ الحاضرِ وسطوةِ الماضي. لجسدٍ على ساحلِ البحرِ ينحازُ للتربة هناكَ من الماءِ ما يكفي لإطفاءِ الحرائقِ العابرة، وليس هذا الحنين الذي يفتحُ بوابةً للسماء يرى منها اسماً وشكلاً بلا مرآةٍ تُريهُ عمّرهُ وأمَده. يسألُ الحنينُ عن هويةٍ تأويه ، تُقدمهُ للجسدِ الذي يغرقُ في السهر والتخيل. وعلى فراشٍ كالثلجِ لا يسكنهُ الأمل يبقى الجسدُ مُتسمراً حتى انتهاءِ الخريفِ دونَ جدوى.


يرتفعُ اصبعاً واحداً ليشهدَ في الظلامِ إلى الكتابه، يُغني بصوتٍ رخيمٍ يعلو فوقَ أمهدةِ الظلامِ والأزل " هذا الذي تعرفهُ النياشينُ صارَ يغرقُ في شبرٍ من الحلوى .. في شبرٍ من الحُلمِ يغرق" ..
في الصباحِ يكتُبُ الجسدُ للأمواتِ والغرقى: حرارةُ الأرضِ لا تكفي لأدفنَ قدمي وأمشي إلى المجهول !. كان يكفي أن أُحيكَ قصيدة ، أو استدرجَ النخلَ لينمو في جسدِ الحبيبة ثم أتلو هزيعاً من الليلِ والجوع : هذا طعامٌ طاهرٌ وشراب. لا أرى أحداً من الأحياءِ يعرفُ كيفَ يتلو قصةً تمتزجُ بالسيرِ والقُبل دونَ أن يغرقَ في الذكريات ، دونَ أن يستوقفَ رائحةِ العطرِ التي امتزجت بماءِ الشفاة، بالآهِ ،بالأرق ، بالنومِ العميقِ الذي يأتي من الإلتحام، بضحكةِ الصوتِ من التعبِ واللذة. ما يتذكرهُ الأمواتُ والأحياءِ لا يستوعبُ النظرةَ التي تلتهمُ السكوت ، وتبدأُ اجتياحَ القُبّل وتحولاتِ الجسد الذي يمطرُ بُركاناً وجوعا. على الألبابِ ألا يتركوا مقعداً خاليا للتفرجِ وانبعاثِ الحنين الذي تساقطَ من السماءِ ليكونَ لُغزاً إليها وجِرسا.

ما يحدثُ للغرقى من الماءِ الذي يملأُ البطون، كما تفعلُ القُبلاتُ بالحنين ، لا يكادُ الغرقى يعرفونَ أماكنهم على الخريطة كما يفعلُ الأحياءَ ذويّ الحنين. أولئكَ الذي خسروا الحياة وربحوا أحضانَ الشتاءِ كانوا على الوجعِ أثقلُ من خطواتهم التي لا تؤدي لشيء سوى مضاجعهم الباردة !

يلبثُ الهاربونَ من الأمسِ في السفرِ من مكانٍ إلى مكان. دونَ أن يتركوا أوطانهم على حالها، أو حالهم على صعيدٍ زلِق. يستنجدُ المتظاهرونَ على السفرِ بالإنحياز إلى الجنونِ والحسرة، ليسَ لأنهم لا يعرفونَ لذةَ الذوبانِ الأول، أو يجهلونَ حقيقةَ الإحتماءِ السريع الذي تُخلفه الأيدي على الأحبة قبلَ أن يبعثَ الإنشطارَ في فِناءِ التفرقة لكنهم لا يدركونَ بأن نواةً واحدة تخلفُ بعد كل انشطارٍ دمار، هكذا هو الحنينُ عندما ينشطرُ أصحابُ الجوى.

تبقى نارُ اللقاءِ مُضرمةً إلى الأبد، وفي الهواءِ تمثالٌ لا يُرى ولا يهلك لمشهدِ الجسدِ الذي يجمعنا للبقاءِ على مقدمةِ التشابهِ والكمال ، ومن ذاكرةِ الجسدِ الذي لا يفقدُ نفسه يبقى مُعلقاً بألمِ الولادةِ وشهوةِ الرقصةِ الأولى والإشتهاءُ الأول ، كثلجٍ ينسابُ على صدرِ راقصةٍ تُجيدُ التمايلَ كالورودِ القائمة. ولأن الخروج من رحمِ التنهيدةِ الأولى كانَ أصعب من التهلكة لا فرارَ من الإلتقاءِ على قارعةِ الطريق وإيقاظ الحجر، كانَ حُلما واضحا أن نذوبَ في نهرٍ بارد فيصبحُ مهداً للتجردِ من الخطيئة، ساحةً للهربِ من الشتاءاتِ الغليظة، ملجأً للعبورِ نحو المّحاق أو بابا أمام المتلاصقينَ على الفراشِ للتثاؤب ! 


٢٦ أغسطس ٢٠١٣
جدة 

الجمعة، 23 أغسطس 2013

صداعٌ أول

خطوةٌ إلى الصداعِ تعودُ بالشوقِ إلى مكتنِ التعب. يتسللُّ في الصباحِ إلى حزانتهِ يبحثُ خلفَ الرفوفِ عن قميصٍ يواري عورته. كلّما كانَ الفضاءُ أزكى بالعبير كلما كان البحثُ أطول. يعلمُّ أنها لن تراه ويبحث!، يعلمُ أن آخرَ عطرٍ تجاوزها كانَ من خزانةِ أبيه. شيئانِ يجتمعانِ دوماً الحُبُّ والجوع. وآخرانِ بلا وِفاق : حبٌ و قُدرة. صُرّتُهُ المُلقاةُ على الطاولة، ينظرُ لها ويبصر ذاتهُ فيها دونَ أن يذكر كيفَ كان يفتحُها كل صيف ليبحثَ عن هداياهُ الصغيرة. 

لا زالَ في الأرضِ مُتسعٌ ليكتبَ الرسائل، كرسائلَ لن تصلْ أبدا :
من غُرفةِ التوقيفِ ألهث، ولكنني قادمٌ بعد هذا سنأخذُ ماءنا الدافئ، ثمَّ نصنعُ بيضتان أو لن نفعل ! .. فأنا على قدرِ الجوعِ اشتاقُ لنهدينِ من عاج يملكونَ صدري ويخجلونَ من القُربِ مني. كما كُنتُ أحلم كما لا زلتُ أرجو لأن تبقى خطيئتنا في الأعالي. واحتاجُ قدميكِ لأرفعَ خطوتي عن التآكل، مخاضاً يجمعهُ التائهونَ إلى التباهي والانقضاض. ولو أحلمُ إن كُنا مسافرينَ معاً على متنِ أقدامنا حينها ينكشفُ إلى العراءِ جسدٌ واحدٌ كل ليلة، هذا هو نحن. هذا هو أنتِ قبلَ أنا. لايزالُ المأمورونَ بالتحيةِ والكلامِ يُرددونَ أسرارَ شقتي كاملة، ولا يعرفونَ شيئا عن سُعالنا الأبدي على الملاءة. هذا الوِرثُ الذي نتركهُ للثعالب، لم يكن يوماً لينضبْ. هكذا تنمو سرائرُنا دونَ أن نشعر. نحنُ موقوفونَ على بابِ الأحبةِ والحياة،لا نكادِ نعبرُ حتى نكون على وشكِ الامتزاج، كطائرتينَ من الرصاص، كمسمارين على مدخلِ حانة. يواجهونَ الإشتهاءَ والسكرة. وحانَ أن يخرجَ قلبُنا الأعزلُ من وراءِ الحُجب. نُحبُّ نظرتنا كثيراً ، لكننا نحلمُ بالعمى ونكونُ محتاجين إلى اليدينَ كُلما أردنا التأكُد من وجودِنا جنباً إلى جنب. هذا الإلتماسُ يودي إلى التهلكة، يحدثُ أن نكونَ مُغرضينَ في اليأس، ولا بأسَ أن نيّأس ، لذوبَ في بعض الثلجِ والحسرة. فلم يّعُدْ بعدُّ لنا أملا في التشفي ولا الإستقامةْ. زمنُ أجدادِنا ولّى ونحنُ الآنَ شيءٌ من التُفاحِ ينتظِرُ المغفرة. لم نأكل كما أُمرنا، ولكننّا شبعنا الإنهزامَ للجوع. الآن يبدو على وجهِنا السُخطُ لأننا رفضنا البحرَ أو السباحة، وأردنّا أن نزرعَ من الجبالِ وروداً وأماكنَ للصلاة.

كعمرٍ يستعدُ للتحاورّ مع الأمكنة والطقوس، كانَ حزامُنا صبراً للنبوءة، واستئناساً بالتعب. تمتدُّ المسافة وتشعرُ أقدامنا بأنها تغرق. ويبقى من الأثرِ ما يخذلُنا. لهذا الوحل أن يذكر حجم أقدامنا وقلوبنا لا تدري!


المدينة
١١ أغسطس ٢٠١٣

الأحد، 18 أغسطس 2013

رعشة

أولُ رعشةٍ في ثياب الليل، هكذا يقترب من يدها دون أن يلمسها، يبدأ في استعراض أحلامه وينظرُ لها دون ترمش عيناه مخافةَ أن تزيح الصورة أوهامهُ يعود بذاكرته نحو الماضي يفتشُ بالذكريات ويترقب الحاضر كي يستغيث نفسه للتجلي. يُرردُ الحاضرُ في داخله ما تعجزُ عنه الكلمات: " من غابَ سيعودُ لنظرة، يُلقيها ثم يعبث من جديد" ..
ويبدأُ الحاضر بالسؤال يُقلبُ كفيهِ ثم يقول: من عاد هذه المرة؟ ، أنا لستُ شيئا من الماضي ، لستُ عبداً للتجربة!.



 يتوقف القلبُ عن المشاهدة ويبدأ بالصلاةِ ، لا شيء يحتضرُ الآن سواك أيها الحُر ، حتى الماضي لم يفعل ، وحدك تلبس أعباء الزمن، وحدك تمشي بلا قدمٍ نحو العطاء، نحو البحر والغرق، ولم تأبه كيف ستسبحُ في الذاكرة أو كيف تنجو من الوحدة. ومتى ينحلُ عنك سوادُ الأخيلة.
يفتحُ العقل بابا للهروب ، هكذا يتسع الأمل في عيون الشباب، أيها القلب افتح كتابا للذهاب، اورع مكانا للوقوف على الأضرحة، سترى الماغوط يكتب عن أثرا يشبهك، سترى غريبا في صورتك يسكنُ زنزانةً في الجزائر، سترى المارة في بغداد يوارون أحزانهم في تراب السياب، سترى كوباً من الشاي يرثي أملا* في غرفتهِ البيضاء ويصارع السرطان حتى الآن يموت السرطان في جسده ويبقى شعره يحكي عن قصةِ المستقبل، سترى رجلا يغادرُ الجزيرة يُخرجه الصمتُ من أحشائها، ويرتمي على صخرةٍ في الشام لم تصمد لتكون قبراً له، سترى أشياءَ تُنقحُ المذنبينَ من الخطايا.



لطالما اخبرتك أيها الحيُّ لستَ وحدك وهناك جمعٌ من الموتى ينتظرون ثوبك ليسقط وتنكشف للعراء ، ثم يحتضنوك، لا يُهمك الآن الحضور أو الغياب ، ولا البقاء ولا الذهاب، فلماذا لا تترك يدك تضمُّها حتى ترحل وتسمي نزوتكَ ماضيا جميلا! .


١ أُغسطس ٢٠١٣
جدة