الخميس، 5 مارس 2015

بين الماضي و'الماضي'

بين الماضي و'الماضي'

عندما كتب بيركنغايم في رسالته وكان تتضمن وصفا لاذعاً للحياة الثقافية لدى العرب في سوريا في منتصف القرن التاسع عشر : "ماجدوى محاولة إصلاح من  يدققون في عدد الزيجات وهل ما إذا كان زواج الحبلى رأفة ومن ينتظر مجيء الوحش والدجال؟"

كان يعني تماما النظر إلى أطروحات الثقافة فما ذكره هنا يصور ولو جزءً من حقيقة التداول الثقافي العربي آنذاك الذي استمر - بفترات متقطعة- إلى بداية القرن العشرين في كل مره يستدعي فيها الطرح الديني فكرة الخلاص أمام انسداد الأفق. وحينا فحين كان يطرأ لا شعوريا تقديم هذه الرؤيا بدلا من البحث عن خيارات للتعاطي مع الواقع وإيجاد الحلول. ففي فترات الحروب المقدسة كان الخلاص هو الملاذ للقضاء على بؤرة الحياة التي لا تساوي شيئا كما زعم حاملو هذه الشعارات والأمثلة كثيرة على ذلك والنتاج المتطرف داخل وخارج مجتمعاتنا لازال قائما.

 والآن وبعد بداية الحوار بين التطرف والاعتدال وبين الحلول ولا حلول كان من المنطقي جدا أن تظهر مختلف التوجهات والأطروحات الواقعية واللاواقعية. فبدأت المجتمعات العربية تأخذ أشكالا مغايرة بفعل التقنية والتواصل اللاإرادي مع العالم، هي تقرأ اليوم ما يحدث فيها وفي غيرها وما ينتج منها ومن غيرها، وهي الآن خطوة في عجلة الحياة وما تنتجه من فكر أو تطرف يؤثر في صيرورة الواقع ولم تعد أي تفسيرات قدرية تجدي نفعا. إن السؤال الآن يكمن في ماهية هذه الخطوة وآمالها وجوانبها التي تعطيها طابعا يُعبر عن ما يدور في خلد فاعليها مهما كانت أهدافهم فإنهم فاعلون. 
فالحياة اليوم تأخذ طابعا مختلفا والأطروحات والتساؤلات تحدد بوصلتها، فالسلوك للمجتمعات لم يعد عبثيا ونتائجه تكاد تكون مباشرة ومصيرية، والتحدي هو في قدرة هذه المجتمعات على طرح الأسئلة ومعالجاتها. إن الظواهر الجديدة سواء من التطرف تكشف لنا المدى الذي تستوعبه ثقافتنا، كما أن أشكال الحداثة توضح لنا قدرتها على استيعاب الحياة والمستقبل، فما تطرحه اليوم الأجيال بما لا يتوافق مع من سبقها يعني رفضا للتطبيق الواقع. فصار مُحتما عليها الوقوف ومواجهة الموروث ومساءلته عن المصير الذي أودى بها أو زاد من قيمتها الحياتية.

فالتطرف قد يتواجد في كل مجتمع ، ولكن المؤشر في مدى احتضان الثقافة العارمه له أم لا في مجتمعٍ أو آخر يتبين في مدى توافق الأطروحات التشريعية دعما له أو محاربةً له. إن زيادة الهامش الديني في الخطاب السياسي والاجتماعي عربيا على حد سواء تجعلنا أمام حيرة من حوادث اليوم، رافضين امتصاص الغضب والنظر في جدلية الحدث. وخاصةً إذا ما وجدنا أن المتطرفين يحملون الآراء ذاتها وحتى الفتاوى والتشريعات التي سرنا بها قرونا ساحقة. ولا يتسع المجال لذكرها هنا ولكن الأهم أننا هل بدأنا مساءلتها؟ ،  فلابد من أن نفعل سواء كانت هي أو تلك التي انفجرت اليوم أو تلك التي قد تنفجر في وجوهنا يوما من بقايا الموروث.

وربما بدأت أطروحاتنا الحالية تتخذ شكلها الناقد أمام التراث الديني والاجتماعي و إذا ما رفضت الأجيال السابقة امتصاص هذا النقد الذي لا بد وأن يكون متواصلا فهنا نحن بحاجة لثقافتين متوازيتين متناقضتين لبناء واقع وهو ما سيزيد من صعوبة المهمة وقد تفشل في الوصول إلى تسوية. فالحديث عن الإلحاد وانتشاره على سبيل المثال لابد وأن يكون منهجيا لفهم أسباب السلوك وهل هو عبارة عن ردة فعل لماضٍ تميز بالجمود والثبات وبين حاضر يستدعي قفز مسافاتٍ فكريةٍ لاستيعابه.

إن التداول الفكري يحدد مسارات الحاضر القريب والبعيد والعودة للماضي ماهي إلا استمرارا لمسلسل الصراع فيه بعيدا عن  التدافع التي يشجع الإنتاج ويدفع بعجلة الإنسان وبدونه فالمصير مبهم وعبثي ولا يمكن تنبؤ شكله أو لونه، فالأجدى أن نبتكر خارطة الغد من أن نصبح خارجه تماما ثقافيا ومعرفيا.


الظهران 

٢ آذار ٢٠١٥