الجمعة، 24 يناير 2020

نجيب .. والوداع

أعود من زمن إلى فتح الصفحات الفارغة، تساورني الكتابة المنقطعة منذ مدة. لست أجد في ذاكرتي سبباً لذلك. ربما هو جفاف الروح كما يسميه ألبرتو مانغويل في كتابهِ “المكتبة في الليل”. أعود محملاً بالقدر القاتل من الأفكار والمشاهدات التي تتهادى في مدى النسيان. أكثر ما يؤرقُنا نحنُ البشر في الانقطاع، هو العودة من جديد ، وسؤال : من أين يجب أن أبداً ؟. هذا التحدي ينطوي على الكثير من الأسئلة. الحديث عن الأصل ، عن الهدف ، عن المغزى من وجودك كبشر ، أو حتى كمجرد كاتب. وربما أيضا كون الكتابة تحرراً من كل شيء ، فكيف هو الخروج المناسب من قيد الصمت؟. هناك أسباب عدة قد يطول الحديث عنها وينتهى هذا المساء سفسطائياً دون حد. لكن المؤكد هو أن حدثا ما هو ما يكسر مسيرة السكوت، ويُحرضنا على الكتابةِ دائما. فالكتابة سلاحٌ لايستطيع كسر السلطة لكنهُ فعّال جداً. كما هو حال الحقد أمام الشجاعة. كما يشير ميكافيلي في "الأمير": " وبما أن الإنسان لم يدخل دور المعرفة إلا منذ زمن قليل، وكان مسيراً بالمشاعر والمعتقدات، تجلى لنا شأن الحقد في التاريخ". وقد أشار كولان كما يضيف: " لا داعي للشجاعة في الحرب أكثر مما إلى الحقد". إن مناسبة ما يقوله ميكافيلي لليوم رغم كتابته قبل ما يقارب خمسة قرون لهو أمر يحرض على الكتابة أيضا. 

ليس على الكاتب أن يعرف متى عليه أن يكتب، ولكن يجب عليه معرفة ما إذا كان الصمت واجبا. ينتابُ كل منا شغف القراءة فقط، دون الكتابة. تحيطها الرغبةَ في التأمل اللامنقطع ، إن الإنسان في بساطته يبحث عن التجرد أحيانا. دون أن يدرك لماذا ومتى وكيف. فالله كما يتصوره البشر متجرداً يُلقي بظلالهِ على كل شيء. فالتجرد هو حالة من الإنفصال والارتباط في آن واحد. ذلك الارتباط السرمدي الذي تحاصره الذكريات. ولكن الكتابة تثير هذا الكم الهائل من التساؤلات، والأساطير كما تصنع القراءة تمام. فلو لم تُكتب قصة أخيل وبولسكينا ، لم نفهم المعنى الأشمل للضحية. اكتشف هيكتور أمر أخيل عندما تسلل إلى معبد أبولو لاستراق النظر إلى حبيبته. كان هيكتور يعارض زواج أخيل من شقيقته بوليسكينا، ولذا أقدمَ على قتله. يعبر ألبرتو مانغويل عن أسطورة الضحية بوصفها " أبرأ من أن تكون دافعا، أبرأ من أن تُلام، أبرأ من أن يستفيد الآخرون بموتها، صفحةٌ بيضاء تسكن القارئ بأسئلةٍ لا تجاب". يواصل البشر عادة كتابة الأشياء التي يحبونها ، لا بغرض التساؤل فقط ، ولكن رغبةً في التذكر. وهم أيضاً يدونون تلك التي يكرهونها رغبةً في التساؤل. فالموت على فرضية محدوديته جدليا، يبدو واحدا منها. 


قبل أيام ، فارق نجيب الزامل - الأب الروحي لكل من يشعرون بالآخر- الحياة. فجاءةً ، رغم كل شيء ، انتزع الموت بسلطانه إنسانا حقيقياً ، عزَّ نظيرهُ ، ليبدأ الانثربولوجيون القلائل حولنا بالبحث عن مرشد آخر. لا أفضل الحديث عنهذا الأسى كثيراً ، لأسباب أجد لها تبريراً سخيفا. عندما كنت أحاورهُ عن ما إذا كان المتنبي أو أبي العلاء المعري على ذات القدرة الفلسفية. يطول الجدل ويقول لي : "ما يرجح كفة المعري هو قوله: لا تأنفُ النفسُ من موتٍ يلمُّ بها فالنفسُ أنثى لها بالموتِ إعراسُ" كان نجيب بكل اختصار ، إنسانا، قضى وقتهُ يقتح أبوابا من الزخم، لاتنتهي. وداعا أبا يوسف، وداعا إلى الأبد.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق