السبت، 25 أبريل 2015

قاربٌ ورمْل

الصيف يقترب، الشتاءُ ، الغبارُ يجتاحُ بقايا البردِ ويقتطعُ النسيم. ويبقى الغيمُ حائرا في وجهته الجديدة، يتشتت، تبقى غيمةٌ واحدة تجوب الصحراء تمطر ولا تمطر. 

التاسعة صباحاً ، الشمسُ تقترب من تعامدها على رؤسنا نحن الأربعة. نقف أمام معضلة محولٍ للطاقة ، وكأيِّ يومٍ آخر. نستجمع قوانا نكافح الشمس والريح ونسمات الغبار. أقفُ بجانبي آصف من جمهورية باكستان ويرافقنا مهندسان من أصحاب البشرة البيضاء من جنوب أفريقيا 'كوبي' و'بيتر'. منذ دخولي للموقع انتظر اللحظة التي تمكنني من اكتشاف اللغة التي يتحاوران بها. وأتساءل عن إنتماءاتهم للبلاد التي تحملُ على عاتقها أن تعطي إنتماءاتٍ لكل قاطنيها، بل لكل لغاتهم ولهجاتهم وتقاليدهم المغايرة. وأعود لأسأل ذاكرتي ذات السؤال. 

يسخن الهواء ، يلفح في وجوهنا ذرات الرمل. يقاسمنا العرق وجوهنا. آصف يرفع القبعة ويترك بعض نسمات الهواء نتابع التأمل وروسومات التصميم وتدوين الملاحظات دون جدوى وبجدوى.

كوبي وبيتر من مواليد ما بعد الاحتلال البريطاني لجنوب افريقيا، ينتميان لها ، يتحدثان لغة البلاد ذاتها ، يحملان في أعينهم بريق سواحلها وغابتها الدافئة. كيف لسلالة المعتدي أن ترفض تاريخه وتصر على إنسانيتها أبدا.

الساعه الواحدة ظهراً وقد انتهينا من حل معضلات العمل وبقيت معضلات الجوع والحياة نتصافح نخرج لتناول الغداء. على أطراف سيهات، مدينة مكتظة بالسكان المحليين نقف أمام أحد المطاعم الشعبية بتوصيات آصف فهو يأتي كل يوم منذ عامين على حد قوله. نجلس نبدأ بالطلب ومن ثم يأخذنا الحديث عن الإقتصاد والبنية التحتية وكيف تبدو الأمور معقدة هناك ، نجدد الأمل تارةً بالحديث عن عودة زارداري للحياة السياسة وضمور النزاع الذي لا ينتهي بين الهند وباكستان. نتابع الحديث عن بنازير بوتو ومحاولات الاغتيال التي احتدمت لتسلبها حياتها وتسلب المرأة في باكستان فرصتها الثمينة. يبدو رفقاؤنا صامتين حتى الآن.نتبادل الحديث عن الزعيم الراحل ذو القفار بوتو الحاضر الغائب وعن انفصال بنغلاديش ، عن ذلك الرجل الذي كسب احترام الجميع وغضب الكثير في آن واحد وأصبح ذاكرةً تقتات عليها التساؤلات. 

اسألُ 'كوبي' عن جوهانزبيرق يجيبني بأنها بحال أفضل. اتضح أنه يحدث رفيقه بلغة الأفريكانو ، وعندما سألته لماذا لا يتحدثون بالإنكليزية قال : نحنُ ولدنا في جنوب أفريقيا ولانعرف الكثير عن الإنكليزية! . كنا ننظر أنا وآصف لأنفسنا بتساؤل، بإعجاب وإزدراء، كيف أصبح العالم يقلب الطاولة على نفسه؟.

ها هنا نجلسُ ، كل منا من عالمه ومن بقعة أخرى ، نجهل هذا المكان تماما، بعثت بنا شركاتنا من حدبٍ وصوب. 'كوبي' يستطعم الأرز المطهو على الطريقة الكشميرية ، وأنا أتناولُ قطعة اللحم الإفريقي، آصف يتلذذ بالمشويات العراقية وبيتر المتين -الجنوب أفريقي الآخر- يسألني عن المتاحف المتاحة للزيارة. أُتمتمُ : هذه الحياة لعبة الكراسي الكبيرة.

العم مُراد ، هكذا دعاهُ آصف عندما دخلنا يعمل في هذا المطعم بضعاً وثلاثين عاما، ابنه الأكبر يراجع الحسابات، الأصغر يحمل الأطباق ويجددُ السُفر. كيف يبدو النفط قريبا وبعيدا في الوقت ذاته؟ ، كيف تمتد يدهُ لأقصى أفريقيا وتترك من يقيمون هنا؟. لا جواب، حتى هذه الشمس تراوغُ في ضوئها الذي يختفي ويعود. غيمةٌ تقترب وأخرى تذهب.

ليس هناك أحدٌ يستطيع التنبأ بالمطر، ما أن يفعل حتى تعود الشمس لتصهر هذا التنبؤ. الطائراتُ تملأ الأجواء تحفز هذه الرياح للثورة. الرياحُ ثورةٌ لا تقبل القصف، وهذه الصحراء ليست يمناً بائساً ولا سعيدا. نخرجُ لنتابع ما بدأناه صبيحة هذا اليوم، يحدجني آصف بنظرة بعد ما انهينا الحديث عن الكساد وإفلاس اليونان وعن المستقبل القريب. ربما يعاتب من يشترون عراقةَ الأمكنة بدولارات النفط وعرق السكوت. أمشي يمر في خلدي شريط لحياةٍ لا أعرفها ، عالم يتطابق فوق بعضه، تساؤلاتٌ لا تنتهي كلما نظرت إلى الرمال الشاسعة حول الطريق. جنونٌ جديد يجتاحنا أكثر ممن ارتحلوا في سفن الجنون خلال العصور الوسطى، ربما كشف فوكوه سر الجنون للبشر كي يجعلوا التيه صبغةً لهذا العالم. نسمةٌ تهرب من ضفاف البحر تحددُ آمالنا في أن نصل لقدرٍ آخر لا تعتريه خطيئتنا.


الظهران 
٧ نيسان ٢٠١٥

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق